ياسمين ترى في الموت رحلة شائقة
كان ذلك في يوم من ايام صيف 1996في مدينة الدمام في المملكه العربيه السعودية وبالتحديد في فندق الأوبوروي حيث كنت في موعد مع صديق لشرب القهوه العريبة بعد صلاة العصر...
وصلت الى الفندق وتحديدا الى قاعة المقهى المكيف الجميل ذي الديكورات الخلابة وذلك قبل الموعد بساعة فدخلت المقهى ولم اكن اعرف اين اجلس او انتظر الا ان جمال المكان شدني للتجوال في انحائه لرؤية كل زاوية فيه وبالفعل تنقلت بين روعة الفن والديكور والأعمال الخشبية والزجاجية الجميلة حتى وصلت الى زاويةفي اخر المقهى حيث وضع اثاث جميل وهادئ الألوان واضاءة خفيفة جدا ولا يرى الأنسان الا صفحة الوجه...
شدني ذلك الديكور الرائع وتقدمت قليلا وبهدوء شديد الى الجالس على تلك الأريكة فقط لكي اهنءه على حسن اختياره لتلك الزاويه ولكنني رايت رجلا في الخمسينات نحيف الوجه قد خط فيه الزمن خطوطه وعيناه غائرتان ومليئتان بدمعتين من الحجم الكبير جدا كان يجاهد لكي يمنعها من السقوط على خديه ..
تقدمت اليه فرايته غارقا في فكر بعيد جدا يخترق بنظرته الخمسينيه ماوراء الفندق والدمام والكره الأرضيه كلها ققلت له السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فنظر الي بنظرت استغراب لانه لا يعرفني ولا اعرفه وقال وعليكم السلام وسكت وقلت له هل يمكنني الجلوس على الأريكه المقابلة ام هي محجوزه ؟؟!!
فقال كالمنزعج لا نقطاع حبل افكاره لا نعم تفضل تفضل فعرت من كلامه انه من اهل الشام وبالتحديد من لبنان فجلست وانا ساكت ولكن كيف لثرثار ان يجلس دون تعذيب لسانه ؟ فقلت عفوا ولكن لماذا تعذب عينيك وتمنع دمعتيك من السقوط على خدك؟؟
لوكنت مكانك لأرحت عيني من تحمل حرارة الدمع الحزين وارسلته على خدي....
فما ان سمع كلامي حتى انهمر الدمع على خديه وسلك التقاطيع الكثيرة في وجهه قلت له لابد انك ذكرت اناس اعزاء عليك قال ومايدريك قلت ارى معزتهم في عينك ومحياك قال نعم اعزاء جدا قلت ومتى ستلتقي بهم قال والله اتمنى في كل لحظة السفر اليهم ولكن المسافة بعيده جدا قلت واين سكناهم قال اخر لقائي بها كان في امريكا قبل ثلاث سنوت ولكننا افترقنا فلم نكن نلتقي الا في المنام او الأحلام قلت ايهااالعاشق اخبرني بقصة عشقك ان لم يكن تدخل شخصي في حياتك قال بإبتسامة صغيره لاابدا ليس بيني وبين ياسمين اية اسرار بل ستكون سعيدة حسب ظني بها لوانني قصصت عليك قصة حبنا الكبير ولكن دعني اصحح لك معلومة صغرة وهي ان ياسمين ابنتي تبلغ من العمر عشر سنوات ففوجئت بالمعلومة الصغيره ثم استطرد قائلا هل تحب ان تسمع قصة حبنا الكبير قلت متحمسا نعم وبكل شوق قال عشت في الدمام عشر سنين ورزقت بإبنة واحدة سميتها ياسمين وكان قد ولد لي من قبلها ابن سميته احمد وكان يكبرها بثماني سنين وكنت اعمل في مهنة هندسية فإنا مهندس وحائز على درجة الدكتوراه
كانت ياسمين آية من الجمال لها وجه نوراني زاهر..ومع بلوغها التسع سنوات
رأيتها من تلقاء نفسها تلبس الحجاب وتصلي وتواظب على قراءة القرآن بصورة ملفتة للنظر.. فكانت ما إن تنتهي من أداء واجباتها المدرسية حتى تقوم على الفور
وتفترش سجادة صلاتها الصغيرة وتأخذ بقرآنها وهي ترتله ترتيلا طفوليا ساحرا..كنت أقول لها قومي العبي مع صديقاتك فكانت تقول: صديقي هو قرآني وصديقي هو ربي
ونعم الصديق..ثم تواصل قراءة القرآن..
وذات يوم اشتكت من ألم في بطنها عند النوم..فأخذتها إلى المستوصف القريب فأعطاها بعض المسكنات فهدأ آلامها يومين..ثم تعاودها..وهكذا تكررت الحالة..ولم أعطي
الأمر حينها أي جدية..وشاء الله أن تفتح الشركة التي أعمل بها فرعا في الولايات المتحدة الأمريكية..وعرضوا علي منصب المدير العام هناك فوافقت..ولم ينقضي شهر
واحد حتى كنا في أحضان أمريكا مع زوجتي واحمد وياسمين..ولا أستطيع وصف سعادتنا بتلك الفرصة الذهبية والسفر للعيش في أمريكا هذا البلد العملاق الذي يحلم
بالسفر إليه كل إنسان..
بعد مضي قرابة الشهرين على وصولنا إلى أمريكاعاودت الآلام ياسمين فأخذتها إلى دكتور باطني متخصص..فقام بفحصها
وقال: ستظهرالنتائج بعد أسبوع ولا داعي للقلق
ادخل كلام الطبيب الاطمئنان إلى قلبي..وسرعان ما حجزت لنا مقاعد على أقرب رحلة إلى مدينة الألعاب (أورلاندو) وقضينا وقتا ممتعا مع ياسمين..بين الألعاب
والتنزه هنا وهناك .. وبينما نحن في متعة المرح..رن صوت هاتفي النقال..فوقع قلبي..لا أحد في أمريكا يعرف رقمي..عجبا أكيد الرقم خطأ .فترددت في
الإجابة..وأخيرا ضغطت على زر الإجابة..
- الو..من المتحدث ؟؟
- أهلا يا حضرة المهندس..معذرة على الإزعاج فأنا الدكتور ستيفن..طبيب ياسمين هل يمكنني لقاؤك في عيادتي غدا ؟
- وهل هناك ما يقلق في النتائج ؟!
- في الواقع نعم..لذا أود رؤية ياسمين..وطرح عدد من الأسئلة قبل التشخيص النهائي..
- حسنا سنكون عصر غد عند الخامسة في عيادتك إلى اللقاء.. اختلطت المخاوف والأفكار في رأسي..ولم ادر كيف أتصرف فقد بقي في برنامج الرحلة يومان وياسمين في
قمة السعادة لأنها المرة الأولى التي تخرج فيها للتنزه منذ وصولنا إلى أمريكا..وأخيرا أخبرتهم بأن الشركة تريد حضوري غدا إلى العمل لطارئ ما..وهي فرصة جيدة
لمتابعة تحاليل ياسمين فوافقوا جميعا على العودة بشرط أن نرجع إلى أور لاند في العطلة الصيفية..
وفي العيادة استهل الدكتور ستيفن حديثه لياسمين بقوله: - مرحبا ياسمين كيف حالك؟
- جيدة ولله الحمد..ولكني أحس بآلام وضعف، لا أدري مما ؟
وبدأ الدكتوريطرح الأسئلة الكثيرة..وأخيرا طأطأ رأسه وقال لي: - تفضل في الغرفة الأخرى..
وفي الحجرة انزل الدكتور على رأسي صاعقة..تمنيت عندها لو أن الأرض انشقت وبلعتني..
قال الدكتور: - منذ متى وياسمين تعاني من المرض ؟
قلت: منذ سنة تقريبا وكنا نستعمل المهدئات وتتعافى ..
فقال الطبيب: ولكن مرضها لا يتعافىبالمهدئات..أنها مصابة بسرطان الدم في مراحله الأخيرة جدا..ولم يبق لها من العمرإلا ستة اشهر..وقبل مجيئكم تم عرض
التحاليل على أعضاء لجنة مرضى السرطان في المنطقة وقد أقروا جميعا بذلك من واقع التحاليل ..
فلم أتمالك نفسي وانخرطت في البكاء
وقلت: مسكينة..والله مسكينة ياسمين هذه الوردة الجميلة..كيف ستموت وترحل عن الدنيا..وسمعت زوجتي صوت بكائي فدخلت ولما علمت أغمى عليها..وهنا دخلت ياسمين
وابني أحمد وعندما علم أحمد بالخبر احتضن أخته
وقال: مستحيل أن تموت ياسمين..
فقالت ياسمين ببراءتها المعهودة: أموت..يعني ماذا أموت ؟ فتلعثم الجميع من هذا السؤال..
فقال الطبيب: يعني سترحلين إلى الله..
فقالت ياسمين: حقا سأرحل إلى الله ؟!.. وهل هو سيئ الرحيل إلى الله ألم تعلماني يا والدي بان الله أفضل من الوالدين والناس وكل الدنيا..وهل رحيلي إلى الله
يجعلك تبكي ياأبي ويجعل أمي يغمى عليها..فوقع كلامها البريء الشفاف مثل صاعقة أخرى فياسمين ترىفي الموت رحلة شيقة فيها لقاء مع الحبيب..
- عليك الآن أن تبدأ العلاج..
فقالت: إذا كان لابد لي من الموت فلماذا العلاج والدواء والمصاريف..
- نعم يا ياسمين..نحن الأصحاء أيضا سنموت فهل يعني ذلك بان نمتنع عن الأكل والعلاج والسفروالنوم وبناء مستقبل..فلو فعلنا ذلك لتهدمت الحياة ولم يبق على
وجه الأرض كائن حي..
الطبيب: تعلمين يا ياسمين بأن في جسد كل إنسان أجهزة وآلات كثيرة هي كلها أمانات من الله أعطانا إياها لنعتني بها..فأنت مثلا..إذا أعطتك صديقتك لعبة..هل
ستقومين بتكسيرها أم ستعتنين بها ؟
ياسمين - بل سأعتني بها وأحافظ عليها..
الطبيب : وكذلك هو الحال لجهازك الهضمي والعصبي والقلب والمعدة والعينين والأذنين ، كلها أجهزة ينبغي عليك الاهتمام بها وصيانتها من التلف..والأدوية
والمواد الكيميائية التي سنقوم بإعطائك إياها إنما لهاهدفان..الأول تخفيف آلام المرض والثاني المحافظة قدر الإمكان على أجهزتك الداخلية من التلف حتى عندما
تلتقين بربك وخالقك تقولين له لقد حافظت على الأمانات التي جعلتني مسئولة عنها..هأنذه أعيدها لك إلا ما تلف من غير قصد مني..
ياسمين : إذاكان الأمر كذلك..فأنا مستعدة لأخذ العلاج حتى لا أقف أمام الله كوقوفي أمام صديقتي إذا كسرت لعبها وحاجياتها..
مضت الستة اشهر ثقيلة وحزينة بالنسبة كأسرة ستفقدابنتها المدللة والمحبوبة.. وعكس ذلك كان بالنسبة لابنتي ياسمين فكان كل يوم يمريزيدها إشراقا وجمالا
وقربا من الله تعالى..قامت بحفظ سور من القرآن..وسألناها لماذا تحفظين القرآن ؟
قالت: علمت بان الله يحب القرآن..فأردت أن أقول له يا رب حفظت بعض سور القرآن لأنك تحب من يحفظه..
وكانت كثيرة الصلاة وقوفا..وأحيانا كثيرة تصلي على سريرها..
فسألتها عن ذلك فقالت: سمعت إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ( جعلت قرة عيني في الصلاة) فأحببت أن تكون لي الصلاة قرة عين..
وحان يوم رحيلها..وأشرق بالأنوار وجهها..وامتلأت شفتاها بابتسامة واسعة..وأخذت تقرأ سورة (يس) التي حفظتها وكانت تجد مشقة في قراءتها إلى أن ختمت السورة ثم
قرأت سورة الحمد وسورة (قل هو الله أحد) ثم آية الكرسي..ثم قالت: الحمد لله العظيم الذي علمني القرآن وحفظنيه وقوى جسمي للصلاة وساعدني وأنار حياتي بوالدين
مؤمنين مسلمين صابرين ، حمدا كثيرا أبدا..واشكره بأنه لم يجعلني كافرةأو عاصية أو تاركة للصلاة..
ثم قالت: تنح يا والدي قليلا ، فإن سقف الحجرة قدانشق وأرى أناسا مبتسمين لابسين البياض وهم قادمون نحوي ويدعونني لمشاركتهم فيالتحليق معهم إلى الله
تعالى..
وما لبثت أن أغمضت عينيها وهي مبتسمة ورحلت
إلى الله رب العالمين