في هذا الموضوع سنواصل الغوص شيئا فشيئا في علم الأدلة الجنائية , و ذلك بنفس الأسلوب السهل الميسر و البعيد عن التقرير الأكاديمي
دعونا إذا نوضح هذا الأمر بشرح علاقة المحقق بمسرح الجريمة
بشكل دقيق سنتكلم و كأننا نصور مسرح لجريمة قتل , فأرجو أن تكونوا مركزين معي
دائما ما أكرر أن المحقق عليه أن يتصور أنه لن يدخل إلى مسرح الجريمة ليجد كل الأدلة جاهزة أمامه , بل إنه في كثير من الأحيان يصبح مسرح الجريمة أشبه ما يكون بغرفة محيرة مليئة بالألغاز مهما كانت بساطة تنفيذ الجريمة
من المهم جدا على المحقق أن يتعامل بصورة نقدية مع مسرح الجريمة و عليه ألا يفترض سير الأحداث كما يتصورها هو ببساطة , حتى لا يقع في خدعة قد رسمها القاتل فيقع المحقق في تصور خاطئ للجناية
و الكلام في هذه النقطة يطول , و هذا كلام مختصر
الذي أريد قوله أن على المحقق أن ينطلق من كون مسرح الجريمة يحتوي على أدلة الجريمة و الإدانة ...
لكن أين توجد تلك الأدلة ؟؟
هذا هو السؤال المهم
لتحديد إجابة هذا السؤال فلابد أن يهتم المحقق بكل شيء في مسرح الجريمة
فإنه للوهلة الأولى لا يستطيع التفريق أو تحديد الأدلة
إذا اعتبر المحقق مسرح الجريمة مليء بالخيوط التي من الممكن أن توصلنا إلى حل لغز الجريمة فهذا طبعا يعني أن تلك الخيوط متضمنة للأدلة , و هذا كذلك يجعله يعتمد على التعامل الفني الدقيق مع تلك الخيوط سواء كانت بيولوجية أو غير بيولوجية
بالطبع لا زلنا في مسرح جريمة القتل المفترضة , أليس كذلك ؟
تصور نفسك أيها المحقق تدخل إلى مسرح الجريمة لأول مرة ...
و أنت تنظر إلى تلك الخيوط أو مخلفات الجريمة فلابد أن تعلم أن هناك عوامل تؤثر على هذه الخيوط , مما يؤدي إلى تغييرها أو نحو ذلك
فمن الممكن أن يكون المجرم قد عبث في تلك الخيوط فخربها أو أزالها , فمثلا كأن يقوم بغسل بقع الدماء التي تحدد موقع الجريمة , و هل تم تحريك الجثة ؟
و من الممكن أن يكون المجني عليه تعرض إلى محاولة إسعاف فتغيرت خيوط و آثار الجريمة
و من الممكن أن يكون مسرح الجريمة قد تعرض لعوامل طبيعية غيرت من هيئته لحظة ارتكاب الجريمة , كنزول المطر أو هبوب رياح عاتية و نحو ذلك
و من الممكن أن تتفاجأ بوجود رجل شرطة قليل خبرة قد عبث بالآثار التي أمامك بشكل أو بآخر
إلى غير ذلك من المؤثرات التي لا تحصر
كل هذا المؤثرات من الممكن أن تجدها أمامك في مسرح الجريمة , و استحضار هذا الأمر مهم جدا من حيث جعل هناك رؤية باحتمالية وقوع التغيير , و كذلك فإن هذا الإنزعاج الظاهر عليك الآن من تغيير مسرح الجريمة يدفعك إلى الحذر الشديد عند الولوج لأي مسرح آخر من أن تقوم أنت بنفسك من تخريب مسرح الجريمة
قد يتساءل البعض و هذا أمر غير مستغرب من الاعتناء الشديد بأمرين :
1- بالخيوط أو مخلفات الجريمة .
2- بعدم تغيير مسرح الجريمة
و في الحقيقة أن هذين الأمرين مرتبطان ببعضيهما , و سبب العناية بهما هو ما أشرت إليه في أول موضوع من أهمية الدليل الجنائي , فمخلفات الجريمة أو آثارها هي متضمنة لأدلة جنائية تدين المجرم .
و كذلك فإن مسرح الجريمة هو المكان الذي وقعت فيه هذه الجريمة و لذلك فلابد من وجود أدلة ترشدنا إلى الفاعل من خلال تحليل ذلك المسرح
و هنا يذكر الجنائيون رابطا مهما بين مسرح الجريمة و بين الأدلة الجنائية المادية
و هو رابط التأثير بالتبادل أو ما يسمى بتبادل المواد
هذا المنحى في التفسير التحليلي لمسرح الجريمة يؤكد أن أي احتكاك بين جسمين فلابد أن يترك كل واحد من الجسمين أثر له في الجسم الآخر , سواء كان قليل أو كثير , و ذلك بإختلاف الأجسام و اختلاف قوة الاحتكاك و غير ذلك
لذلك فإن باستطاعتنا من خلال تحليل مسرح الجريمة أن نصل إلى الضفة الأخرى من العوامل التي أثرت على الآثار الموجودة لدينا و التي تكشف لنا مرتكب الجريمة
إذا عرفت هذا عزيزي المحقق فلابد أن تتساءل عن الأمور التي يتوجب عليك من خلالها التعامل مع مسرح الجريمة
من أهم الأمور المطلوبة على المحقق أن يقوم بإكتشاف مخلفات الجريمة او ما سميناه بـ( الآثار المادية ) للجريمة سواء كانت بيولوجية أو غير بيولوجية
هذا الاكتشاف موكل للمحقق و لابد على المحقق أن يكون بارعا في التحليل و النقد ليتوصل إلى الآثار المهمة و المؤثرة في تصور الجريمة
عند الإبلاغ عن جريمة فلن تهرع كل أقسام الشرطة للحادث , على المحقق أن يحدد ما الذي يحتاجه و ما الذي لا يحتاجه
هذا الأمر يدفع المحقق إلى التأني و التركيز الشديد و عدم إهمال أي أمر مهما كان بسيطا
بالطبع لابد على المحقق أن يحرص أن يكون الأول في الوصول حتى يضمن عدم تغيير مسرح الجريمة
و كذلك عليه أن يكون دقيقا في التعامل مع المسرح و ألا يكون مهملا في التعامل مع آثار الجريمة و مخلفاتها
عندما تدخل لمسرح جريمة القتل السابقة , فلابد أن ستستطيع بصورة كبيرة أن تحدد سلاح الجريمة في كثير من الجرائم
عندئذ لابد عليك أن تتوصل إلى ما يتعلق بهذا السلاح
هل هو موجود في مسرح الجريمة ؟
إذا افترضنا أن الجريمة تمت بسلاح ناري فعليك أن تحدد ما هو ذلك السلاح , و من أين تم إطلاق النار ؟ هل هو من قريب أم من بعيد ؟ و ما هي زاوية الإطلاق ؟ ما هو المكان الذي تلقى الطلقة ؟ هل الطلقة مميتة في الحال أم كان هناك وقت قبل وفاة المجني عليه ؟
كل هذه الأمور بإمكانك أن تتوصل إلى تصورها بصورة سهلة و يسيرة مع التجارب و التعامل المتكرر من الجرائم
و كذلك لو كان السلاح هو حبل أو سكين أو كيس بلاستيكي و نحو ذلك
هذه التحديدات ستدعمك بشكل كبير في تسيير دفة التحقيق إلى بر السلامة و الوصول إلى المجرم
هذا الكلام عن سلاح الجريمة هو مثال لغيره من االآثار المادية الموجودة في مسرح الجريمة , و التعامل مع كل أثر يختلف عن غيره
....
و سنصل في النهاية إلى أن مسرح الجريمة يعتبر منطلق قوي للوصول إلى مرتكب الجريمة و ذلك بحسن التعامل مع مخلفات الجريمة و آثارها , و بالتأكيد و قبل كل شيء لن تستطيع التخلي عن خدمات أصدقائنا مختصي الأدلة الجنائية الذين تعرفنا على تصور مختصر لأعمالهم في اللقاء السابق , و إن تيسر مزيد وقت فسأكتب تفصيلا لبعض أعمالهم
لا أريد أن أطيل عليكم في هذا الموضوع
هنا يحسن بي الوقوف , و نراكم في لقاء آخر بإذن الله
2011-01-31, 4:17 am
