جمع ونسخ القرآن الكريم في عهد الخليفة عثمان
وتوزيعه على الأمصار الإسلامية الرئيسية
أُنزل القرآن على سبعة أحرف كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . رواه البخاري (2287) ، ومسلم (818) وهي لغات العرب المشهود لها بالفصاحة .
بلغ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين القرآن الكريم أنه كان إذا نزل عليه شيء من القرآن دعا أحد كُتّابه ، وأمره بكتابة ما نزل عليه ، ففي الحديث عن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه " لايستوي القاعدون من المؤمنين " ( النساء 95 ) فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُملّها عليه . متفق عليه .
وجه أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم بقوله : " اقعُد على باب المسجد ، فمَن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه " . ثم قام عمر بن الخطاب في الناس فقال : " مَن كان تلقّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتِنا به " وقد فسّر كلام الفاروق عمر قول الصديق أبي بكر ، فإن المقصود أن يشهد الشاهدان على أنه مما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على مجرد دعوى أنه من كتاب الله ، فإن الصحابة كانوا يعرفون كتاب الله ويقرءونه ويختمونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، ولكن " كان غرضهم أن لا يُكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ .
وأما تسميته بالمصحف فقد ذكر السيوطي أنهم " لمّا جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر : التمسوا له اسماً ، فقال بعضهم : السِّفر ، وقال بعضهم : المصحف ، فإن الحبشة يسمونه المصحف ، وكان أبو بكر أول مَن جمع كتاب الله وسماه المصحف " .
تعريف القرآن الكريم :
لغة : مصدر مُرادف للقراءة وهو يشير إليه قوله تعالى : ( إنّ علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرأنه ) القيامة 17 . وقيل : أنه مشتق من قرأ بمعنى تلا . وقيل أنه مشتق من قرأ بمعنى جمع ومنه قرى الماء في الحوض إذا جمعه .
شرعاً : القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام ، بلسان عربي مبين ، المنقول إلينا بالتواتر ، وقال سبحانه : ( وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين .على قلبك لتكون من المرسلين . بلسان عربي مبين ) . المتعبد بتلاوته ، المعجز بألفاظه ، الموجود بين دَفّتَي المصحف ، المبدوء بالفاتحة ، المختوم بالجنة والناس .
القـــرآن :
كان القرآن الكريم يتنزل مُنجماً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيحفظه ويُبلغه للناس ، ويأمر بكتابته ، فيقول: ضعوا هذه السور بجانب تلك السورة ، وضعوا هذه الآية بإزاء تلك الآية ، فيُحفظ ما كُتب في منزله صلى الله عليه وسلم ، بعد أن ينسخ منه كتّاب الوحي نسخاً لأنفسهم . وكُتب القرآن الكريم في العسب واللخاف ، والرّقاع ، وقطع الأديم ، وعظام الأكتاف ، والأضلاع والأقتاب .
ومن الصحابة من اكتفى بسماعه من فيه صلى الله عليه وسلم فحفظه كله ، أو حفظ معظمه ، أو بعضاً منه ، ومنهم من كتب الآيات ، ومنهم من كتب السورة ، ومنهم من كتب السور، ومنهم من كتبه كله . فحُفظ القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم في الصدور وفي السطور .
ومن أشهر كُتّاب الوحي في عهد النبوة :
الخلفاء الراشدون ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وأُبي بن كعب ، وزيد بن ثابت . وكُتب القرآن الكريم كاملاً في عهد النبوة إلا أنه لم يجمع في مصحف واحد لأسباب منها : ما كان يترقبه صلى الله عليه وسلم من زيادة فيه ، أو نسخ منه ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتنون بحفظه واستظهاره أكثر من عنايتهم بكتابته .
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه :
توفي النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يُجمع في مصحف واحد مكتوب ، وإنما كان متفرقاً في الصدور والألواح ونحوها من وسائل الكتابة ، حيث لم تكن ثمة دواع في حياته صلى الله عليه وسلم استدعت جمع القرآن في مصحف واحد . وبعد أن تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان هناك من الأسباب والبواعث ، التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى القيام بجمع القرآن في الصحف . وكان من أول تلك الدوافع لحوق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، الذي ترتب عليه انقطاع الوحي ، فكان ذلك المصاب الجلل من البواعث المهمة التي دفعت الصحابة لجمع القرآن ، ثم كانت واقعت اليمامة التي قُتل فيها عدد كبير من الصحابة ، وكان من بينهم عدد كبير من القراء ، مما دفع عمر رضي الله عنه إلى أن يذهب إلى أبي بكر ويطلب منه الإسراع في جمع القرآن وتدوينه ، حتى لا يذهب القرآن بذهاب حُفّاظه . وهذا الذي فعله أبو بكر رضي الله عنه ، بعد أن تردد في البداية في أن يعمل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا شك أن وقعة اليمامة كانت من أهم الأحداث التي حملت الصحابة على تدوين القرآن ، وحفظه في المصاحف . وقد دلت عامة الروايات على أن أول من أمر بجمع القرآن من الصحابة ، أبو بكر رضي الله عنه عن مشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأن الذي قام بهذا الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فقد روى البخاري في صحيحه عن زيد رضي الله عنه أنه قال : أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحرّ ـ أي اشتد وكثرـ يوم اليمامة بالناس ، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القرآن ، إلا أن تجمعوه ، و إني لأرى أن تجمع القرآن ، قال : أبو بكر : قلت لعمر كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : هو والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله صدري ، ورأيت الذي رأى عمر . قال زيد وعمر عنده جالس لا يتكلم ، فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفني نقل الجبل ما كان أثقل علّي مما أمرني به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ، فلم أزل أُراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر ، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسب وصدور الرجال . وكانت الصُحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر . رواه البخاري . والذي عليه أكثر أهل العلم أن أولية أبي بكر رضي الله عنه في جمع القرآن أولية خاصة ، إذ قد كان للصحابة مصاحف كتبوا فيها القرآن أو بعضه ، قبل جمع أبي بكر ، إلا أن تلك الجهود كانت أعمالاً فردية ، لم تظفر بما ظفر به مصحف الصديق من دقة البحث والتحري ، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته ، ومن بلوغها حد التواتر ، والإجماع عليها من الصحابة ، إلى غير ذلك من المزايا التي كانت لمصحف الصديق رضي الله عنه.
جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه
فُتحت أرمينية سنة 25هـ في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وكان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من جملة من فتح أرمينية من أهل الشام وأهل العراق ، وكان هو على أهل المدائن ، وهي من أعمال العراق . وفوجئ حذيفة بن اليمان بتنازع أهل العراق في القرآن ، أهل الشام يقرءون القرآن بقراءة أُبي بن كعب رضي الله عنه ، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وأهل العراق يقرءون القرآن بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام . ورأى حذيفة ناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم ، وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد بن عمرو ، ورأى أهل البصرة يقولون مثل ذلك ، وأنهم قرءوا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
أثار هذا الاختلاف في قراءة القرآن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وخشي من مغبة الاختلاف والفرقة ؛ فترك أرمينية و توجه على الفور إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وقال له : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى .
لقي كلام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه استجابة عند الخليفة ، وكان قد لمس بوادر هذا الاختلاف في المدينة ، وعبر عن هذا بقوله : " أنتم عندي تختلفون؟ فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافاً " ، وبدأ في استشارة الصحابة حول هذا الاختلاف ، واستقر الرأي على أن يُجمع الناس على مصحف واحد ؛ حتى لا يكون ثمة فرقة واختلاف .
لجنة الجمع :
أرسل عثمان بن عفان إلى السيدة حفصة بنت عمر ، وكان المصحف الذي جمعه زيد بن ثابت بأمر من أبي بكر الصديق محفوظاً عندها . وأمر عثمان بتشكيل لجنة من الحفظة لنسخ المصحف الذي جُمع في عهد الصديق في عدة نسخ . وهذه اللجنة ضمت زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعدداً آخر ساعد في الكتابة والنسخ ، وكانوا جميعاً ممن عُرفوا بالضبط والمعرفة والإتقان .
منهج الجمع :
اعتمد الجمع في عهد عثمان بن عفان على عمل اللجنة الأولى التي تولت الجمع على عهد أبي بكر الصديق ، وهو المصحف الذي اعتمد على الأصل المكتوب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بأمره ، وكان الجمع يتم تحت إشراف الخليفة عثمان بن عفان حتى يخرج العمل على أكمل وجه وعلى أعلى درجة من الجودة والإتقان . وكان كل من عنده شيء من القرآن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بما عنده للجنة الجمع ، ويشترك الجميع في علم ما جُمع ، على الطريقة التي اتبعت في الجمع الأول في عهد الصديق ، ومن ثم لا يغيب في هذه المرة عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء ، ولا يشك أحد فيما أودع المصحف ، فالجمع يتم على مشهد من الصحابة وعلى ملأ منهم . وإذا اختلفت اللجنة في آية ما قالوا : هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاناً ، فيُرسل إليه ويُقال له : كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا ؟ فيقرأها على النحو الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكتبونها ، وعند الاختلاف في قراءة كلمة يقتصر على لغة قريش ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم . واقتصرت اللجنة في الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت وجوهها ، حتى لا تكون فرقة واختلاف ، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلفون فيها ، ولا ينكر أحد منهم ما يقرؤه الآخر . و يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل عليها القرآن ، كالكلمات التي تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم النطق بها على أكثر من وجه ، مثل " فتبيّنوا " التي رويت أيضاً " فتثبتوا " ، و " ننشزها " التي رويت " ننشِرها " " وننشرُها " ، وهذه الكلمات أبقتها اللجنة خالية من آية علامة تقصر النطق بها على وجه واحد . والتزمت اللجنة بترتيب الآيات والسور على النحو الذي تلقاه المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الترتيب الذي روعي في جمع أبي بكر . وبعد الفراغ من كتابه المصحف الإمام ، وقبل حمل الناس على كتابة المصاحف على نمطه يُراجعه زيد بن ثابت عدة مرات ، ثم يُراجعه الخليفة عثمان بنفسه ؛ زيادة في الاطمئنان من خلو المصحف من أي نسيان .
واستمر المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدون يعتمدون في نسخهم للمصاحف على مصحف عثمان مع تلقيهم للقرآن مشافهة عن القراء الضابطين . ويؤكد ابن كثير المتوفى سنة 744هـ رؤيته لمصحف عثمان المرسل إلى الشام بقوله : " وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقّي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كان قديماً في طبرية ، ثم نُقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشر وخمسمائة ، وقد رأيته كتاباً جليلاً عظيماً ضخماً بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق من جلود الإبل " . وقد ذكر ابن بطوطة المتوفى سنة 779 هـ أنه رأى هذا المصحف الذي أرسله عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الشام " . ولعل ما ذكره الأستاذ محمد كرد علي عن المصحف الشامي الذي احترق في سنة 1310 هـ يؤكد بقاء مصحف عثمان بعينه حتى ذلك التاريخ ، حيث يقول عن الجامع الأموي : " حتى إذا كانت سنة 1310 هـ سرتِ النار إلى جذوع سقوفه فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات ، فدثر آخر ما بقي من آثاره ورياشه ، وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي كان جيء به من مسجد عتيق في بُصرى ، وكان الناس يقولون : إنه المصحف العثماني .
إيضاحات :
العُسب:جريد النخيل ، واللخاف : صفائح الحجارة . والأقتاب : الخشب الذي يوضع على ظهر البعير.