قال ابن القيم رحمه الله:
ومن عقوباتها : أنها تستدعي نسيان الله لعبده ، وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه ، وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة ، قال الله : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ سورة الحشر : 18 - 19 ] .
فأمر بتقواه ونهى أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه ، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه ، أي أنساه مصالحها ، وما ينجيها من عذابه ، وما يوجب له الحياة الأبدية ، وكمال لذتها وسرورها ونعيمها ، فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه ، والقيام بأمره ، فترى العاصي مهملا لمصالح نفسه مضيعا لها ، قد أغفل الله قلبه عن ذكره ، واتبع هواه وكان أمره فرطا ، قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته ، وقد فرط في سعادته الأبدية ، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة ، إنما هي سحابة صيف ، أو خيال طيف كما قيل :
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه ، وإهماله لها ، وإضاعته حظها ونصيبها من الله ، وبيعها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن ، فضيع من لا غنى له عنه ، ولا عوض له منه ، واستبدل به من عنه كل الغنى أو منه كل العوض :
من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعت من عوض
فالله سبحانه يعوض عن كل شيء ما سواه ولا يعوض منه شيء ، ويغني عن كل شيء ولا يغني عنه شيء ، ويجير من كل شيء ولا يجير منه شيء ، ويمنع من كل شيء ولا يمنع منه شيء ، كيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين ؟ وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه ، فيخسرها ويظلمها أعظم الظلم ؟ فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه ، وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه .